تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 355 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 355

355 : تفسير الصفحة رقم 355 من القرآن الكريم

** فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل, ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد فقال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها. كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاَية الكريمة {في بيوت أذن الله أن ترفع} قال نهى الله سبحانه عن اللغو فيها, وكذا قال عكرمة وأبو صالح والضحاك ونافع بن جبير وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وسفيان بن حسين وغيرهم من العلماء المفسرين.
وقال قتادة: هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها و عمارتها ورفعها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعباً كان يقول: مكتوب في التوراة ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ثم زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزائر رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره. وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها وذلك له محل مفرد يذكر فيه وقد كتبت في ذلك جزءاً على حدة, و لله الحمد والمنة, ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفاً من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان, فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة» أخرجاه في الصحيحين.
وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من بنى مسجداً يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتاً في الجنة» وللنسائي عن عمرو بن عنبسة مثله, والأحاديث في هذاكثيرة جداً, وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب. رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي, ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه, وقال البخاري: قال عمر: ابن للناس ما يكنهم, وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس, وروى ابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم» وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس أزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي. وعن بريدة أن رجلاً أنشد في المسجد فقال من دعاإلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم «لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له» رواه مسلم, وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد, فقولوا لا أربح الله تجارتك, وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردّ الله عليك» رواه الترمذي وقال حسن غريب, وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعاً قال: خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقاً ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه أحد ولا يتخذ سوقاً, وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابهاالمطاهر وجمروها في الجمع» ورواه ابن ماجه أيضاً وفي إسنادهما ضعف, أما أنه لا يتخذ طريقاً فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وجد مندوحة عنه, وفي الأثر إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه, وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل, فلما يخشى من إصابة بعض الناس به لكثرة المصلين فيه, ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها لئلا يؤذي أحداً, كما ثبت ذلك في الصحيح, وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث, وأما أنه لا يضرب فيه حد أو يقتص فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع, وأما أنه لا يتخذ سوقاً فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد «إن المساجد لم تبن لهذا, إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها» ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله. وفي الحديث الثاني «جنبوا مساجدكم صبيانكم» وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم, وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبياناً يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة, وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحداً «ومجانينكم» يعني لأجل ضعف عقولهم وسخر الناس بهم فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك «وبيعكم وشراءكم» كما تقدم «وخصوماتكم» يعني التحاكم والحكم فيه, ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد بل يكون في موضع غيره لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والالفاظ التي لا تناسبه, ولهذا قال بعده «ورفع أصواتكم».
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن قال: حدثني يزيد بن حفصة عن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال من أنتما ؟ أو من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف. قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال النسائي: حدثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضاً صحيح. وقوله «وإقامة حدودكم وسل سيوفكم» تقدما. وقوله «واتخذوا على أبوابها المطاهر» يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريباً من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله «وجمروها في الجمع» يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ, وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبيد الله, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به والله أعلم, وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً» وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه,اللهم ارحمه. ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة. وعند الدار قطني مرفوعاً «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفي السنن «بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم, وسلطانه القديم, من الشيطان الرجيم» (قال: أقطُ قال نعم) قال فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم.
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك فضلك» ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم. وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسين عن أمه فاطمة بنت حسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك» ورواه الترمذي وابن ماجه, وقال الترمذي هذا حديث حسن, وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة بنت حسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك كله محاذرة الطول داخل في قوله تعالى {في بيوت أذن الله أن ترفع}.
وقوله {ويذكر فيها اسمه} أي اسم الله كقوله {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} وقوله {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وقوله {وأن المساجد لله} الاَية. وقوله تعالى: {ويذكر فيها اسمه} قال ابن عباس يعني فيها يتلى كتابه, وقوله تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والاَصال} أي في البكرات والعشيات. والاَصال جمع أصيل وهو آخر النهار. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن هو الصلاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بالغدوّ صلاة الغداة ويعني بالاَصال صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده. وكذا قال الحسن والضحاك {يسبح له فيها بالغدو والاَصال} يعني الصلاة, ومن قرأ من القراء {يسبح له فيها بالغدو والاَصال} بفتح الباء من {يسبح} على أنه مبني لما لم يسم فاعله وقف على قوله {والاَصال} وقفا تاما وابتدأ بقوله {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} وكأنه مفسر للفاعل المحذوف كما قال الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه قال: من يبكيه ؟ قال هذا يبكيه, وكأنه قيل من يسبح له فيها ؟ قال رجال. وأما على قراءة من قرأ {يسبح} بكسر الباء فجعله فعلاً وفاعله {رجال} فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل لأنه تمام الكلام فقوله تعالى: {رجال} فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عماراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه كما قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الاَية, وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها, وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين, حدثني عمرو عن أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» وقال أحمد أيضاً: حدثنا هارون, أخبرني عبد الله بن وهب, حدثنا داود بن قيس عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي, وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك, وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك, وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك, وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي» قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى, لم يخرجوه. هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب, كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» رواه البخاري ومسلم, ولأحمد وأبي داود «وبيوتهن خير لهن». وفي رواية «وليخرجن وهن تفلات» أي لا ريح لهن. وقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً». وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس, وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بين إسرائيل.
وقوله تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} الاَية. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} الاَية, يقول تعالى لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم, والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم, لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق, ولهذا قال تعالى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم, قال هشيم عن شيبان قال: حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة, فقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} الاَية, وهكذا روى عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة, فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عبد الله بن بكير الصنعاني, حدثنا أبو سعيد مولى بن هاشم, حدثنا عبد الله بن بجير, حدثنا أبو عبد ربّه قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه, أربح كل يوم ثلثمائة دينار, أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد, أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال, ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} وقال عمرو بن دينار الأعور: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم, فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد, فتلا سالم هذه الاَية {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} ثم قال, هم هؤلاء, وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك: لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها. وقال مطر الورّاق: كانوا يبيعون ويشترون, ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} يقول عن الصلاة المكتوبة, وكذا قال مقاتل بن حيان والربيع بن أنس. وقال السدي: عن الصلاة في جماعة. وقال مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله, وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها. وقوله تعالى: {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, أي من شدّة الفزع وعظمة الأهوال, كقوله {وأنذرهم يوم الاَزفة} الاَية.
وقوله {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} وقال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً * وجزاهم بما صبروا جنة وحرير}. وقوله تعالى ههنا: {ليجزيهم الله أحسن ما عملو} أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. وقوله {ويزيدهم من فضله} أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم, كما قال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} الاَية, وقال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثاله} الاَية, وقال {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسن} الاَية, وقال {والله يضاعف لمن يشاء} وقال ههنا {والله يرزق من يشاء بغير حساب}. وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحداً واحداً, فكلهم لم يشربه لأنه كان صائماً, فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً, ثم تلا قوله {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} رواه النسائي وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه.
وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جمع الله الأوّلين والاَخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم, ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله, فيقومون وهم قليل, ثم يحاسب سائر الخلائق» وروى الطبراني من حديث بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن أبي وائل, عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} قال: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا.

** وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّىَ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: نارياً ومائياً, وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين: مائياً ونارياً, وقد تكلمنا على كل منهما في موضعه بما أغنى عن إعادته, ولله الحمد والمنة. فأما الأول من هذين المثلين, فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات, وليسوا في نفس الأمر على شيء, فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بعد كأنه بحر طام, والقيعة: جمع قاع كجار وجيرة, والقاع أيضاً واحد القيعان, كما يقال جار وجيران, وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب, وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار, وأما الاَل فإنما يكون أول النهار يرى كأنه ماء بين السماء والأرض, فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه, فلما انتهى إليه {لم يجده شيئ} فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملاً وأنه قد حصل شيئاً, فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله, لم يجد له شيئاً بالكلية قد قبل إما لعدم الإخلاص أو لعدم سلوك الشرع, كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثور} وقال ههنا {ووجد الله عنده فوفاه حسابه, والله سريع الحساب} وهكذا روي عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد.
وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون ؟ فيقولون: يا رب عطشنا فاسقنا, فيقال: ألا ترون ؟ فتمثل لهم النار كأنها سرابٌ يحطم بعضها بعضاً, فينطلقون فيتهافتون فيها, وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب, فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي} قال قتادة {لجي} هو العميق {يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراه} أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام, فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط, المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده, ولا يدري أين يذهب, بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب ؟ قال معهم, قيل: فإلى أين يذهبون ؟ قال لا أدري.
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما {يغشاه موج} الاَية, يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر, وهي كقوله {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} الاَية, وكقوله {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} الاَية, وقال أبيّ بن كعب في قوله تعالى: {ظلمات بعضها فوق بعض} فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة, وعمله ظلمة, ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة, ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار, وقال السدي والربيع بن أنس نحو ذلك أيضاً. وقوله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل, حائل, بائر, كافر, كقوله {من يضلل الله فلا هادي له} وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين {يهدي الله لنوره من يشاء} فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نوراً, وعن أيمانناً نوراً, وعن شمائلنا نوراً, وأن يعظم لنا نوراً.

** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطّيْرُ صَآفّاتٍ كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ
يخبر تعالى أنه يسبح له من في السموات والأرض أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان حتى الجماد, كما قال تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} الاَية, وقوله تعالى: {والطير صافات} أي في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه, وهو يعلم ما هي فاعلة, ولهذا قال تعالى: {كل قد علم صلاته وتسبيحه} أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل. ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء, ولهذا قال تعالى: {والله عليم بما يفعلون} ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض, فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا معقب لحكمه {وإلى الله المصير} أي يوم القيامة, فيحكم فيه بما يشاء {ليجزي الذين أساءوا بما عملو} الاَية, فهو الخالق المالك, ألا له الحكم في الدنيا والأخرى, وله الحمد في الأولى والأخرة.

** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ * يُقَلّبُ اللّهُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ
يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة, وهو الإزجاء {ثم يؤلف بينه} أي يجمعه بعد تفرقه {ثم يجعله ركام} أي متراكماً, أي يركب بعضه بعضاً {فترى الودق} أي المطر {يخرج من خلاله} أي من خلله, وكذا قرأها ابن عباس والضحاك. قال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً, ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب, ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه, ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب. روواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله.
وقوله {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} قال بعض النحاة {من} الأولى لابتداء الغاية, والثانية للتبعيض, والثالثة لبيان الجنس, وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله {من جبال فيها من برد} معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب, فإن من الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضاً, لكنها بدل من الأولى, والله أعلم. وقوله تعالى: {فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء} يحتمل أن يكون المراد بقوله {فيصيب به} أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد, فيكون قوله {فيصيب به من يشاء} رحمة لهم {ويصرفه عمن يشاء} أي يؤخر عنهم الغيث, ويحتمل أن يكون المراد بقوله {فيصيب به} أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم, ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم.
وقوله {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته. وقوله تعالى: {يقلب الله الليل والنهار} أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا, ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيراً ويقصر الذي كان طويلاً, والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} أي لدليلاً على عظمته تعالى, كما قال تعالى {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} وما بعدها من الاَيات الكريمات.